Saturday, August 29, 2009

مقاربات حول مفهوم الإلحاد

بقلم: هشام آدم
الإلحاد في أبسط صوره -كما أراه- هو: التحرر من المقدّس؛ إذ أنّ الاشتراط الوحيد للإلحاد هو الحريّة. وإلى هذا الحدّ في التعريف المبسّط للإلحاد نقف عند نقطتين أساسيتين هما: الحريّة والقداسة. فالعديد من المُلحدين يُفرِطون في اعتبار الحرّية حتى تُصبح هي الأخرى مقدّسة أو تكاد، أو يُفرّطون في القداسة إلى الحدّ الذي يصعب فيه التفريق بين الحريّة والفوضى أمراً مستحيلاً، والواقع أنّ الإلحاد العقلي المستنير المعتدل هو المطلوب وهو الأصح في جميع الأحوال، لضمان حصول الفائدة المرجوّة من الإلحاد.

وبعيداً عن النظرة الكلاسيكية للإلحاد باعتبارها إنكاراً لوجود الله، فإنني أقول إنّ الإلحاد يهدف في المقام الأول إلى اعتبار أنّ القداسة الوحيدة هي للإنسان نفسه، وذلك من حيث هو كائن واع ومُدرك وصاحب ملكات يجب أن تُحترم وأن تؤخذ في الاعتبار، ويرى الإلحاد أنّ الهدف الأسمى والأوحد لوجود الإنسان –إضافة إلى وجوده نفسه- هي أن يبحث عن الحقيقة، هذا إن قمنا بفصل الوجود عن هذه الحقيقة؛ إذ أنّ أكبر مشكلات الإلحاد هو اعتبار البحث عن الحقيقة مرتبطة بالوجود الإنساني ومتسلسلاً عنه أو منه وصولاً إلى معرفة الإنسان لنفسه كجزء لا يتجزأ من الحقيقة من ناحية، واعتبار الوجود مرتبطاً بهذه المعرفة من ناحية أخرى.

وفي كل ما تقدّم يظل المُقدّس الأعظم "الله" بعيداً عن نطاق النظرية الإلحادية، ولكنه لا يظل طويلاً منفصلاً عنها، بل تُفضي إليه جميع السُبل البحثية والعقلية، كنتيجة حتمية لتسلسل التأملات والتساؤلات الوجودية والذهنية.

المُلحد الحق، ليس هو الساعي دوماً إلى نفي وجود الله، وإنما هو الساعي دوماً إلى إثبات وجود الإنسان وحريّته التي ظلّت الخرافات والأساطير والديانات تُحاصره وتُخفيه وراء حجاب من المخاوف غير المنطقية والمرتبطة بالماورائيات. وبين عملية النفي والإثبات هذه يبدو الإلحاد في شكل صراع بين الإنسان والله، وكأن وجود أحدهما ينفي الآخر. ويعتقد البعض أنّ وجود الله لا ينفي الإنسان وحريّته، ويجد من الصعوبة اعتبار هذا الأمر إحدى إشكاليته الأساسية، في حين أنّ وجود الإنسان من المحتمل أن يعتبر وجود الله إحدى مشكلاته الكبرى؛ في حين أن حقيقة الأمر ليست كذلك على الإطلاق.

إحدى قضايا الإلحاد الأساسية متمثلة في المطالبة بحريّة اللااعتقاد في مقابل حريّة الاعتقاد من مُنطلق أنّ الشيء لا يقوم ولا يُعرف إلا بضدّه، فكما أنّ الشر ضرورة لوجود الخير، وكما أنّ الخوف ضرورة لوجود الطمأنينة، وكما أنّ اليأس ضرورة لوجود الأمل؛ فكذلك لا يقوم الاعتقاد إلا بوجود اللااعتقاد.

لا أحد يُمكنه وصف عملٍ ما بأن خير، إلا بمقاربة العمل نفسه بضدّه؛ وإلا فكيف نعرف الكرم إن لم يكن هنالك بُخل، أو كيف نعرف الشجاعة إن لم يكن هناك جُبن. هذا التضاد هو في حدّ ذاته حقيقة؛ حقيقة متجددة وحيوية تقوم عليها الحياة كلها، وتسير عليها قوانين الطبيعة والفيزياء والأحياء، ولا يُمكن الاستغناء أو إلغاء هذا التضاد أو الاستعاضة عنه بقانون آخر، وإلا اختلت موازين الكون.

ومن غير المتوقع وضع هذا التضاد في ميزان الأحكام العُليا والمُطلقة، على اعتبار أنّ أخلاقية الشيء تعني لاأخلاقية ضدّه؛ فلا يُمكن أن نقول مثلاً: "إذا كان الاعتقاد خيراً، فإن اللااعتقاد شر" لأن معايير الخير والشر معايير غير ثابتة على الإطلاق، فما نراه صحيحاً وخيراً، قد يراه الآخر خاطئاً وشراً بالمقابل.

هذا المفهوم المتقدّم للشيء وضدّه لا يحدث إلا عبر التحرر من المقدّس الذي يجعلنا نرى الخير خيراً مطلقاً، ونرى الشر شراً مطلقاً، وهي ذات القداسة التي وضعت الملائكة في مقابل الشياطين، والجنة في مقابل النار، والإيمان في مقابل الكُفر؛ ولا ننكر أنّ هذا ميزان، ولكنه في النهاية ميزان أعوج، لأن ينفي الآخر، ولا يضعه في اعتباره إلا من حيث ضدّ، دون أن يسمح للضد بأن يكون صحيحاً نسبياً.

ومن هذا المنطلق فإنّ الحرية لا يُمكن اعتبارها شيئاً مقدساً قائماً بذاته دون وجود الإنسان الحُر نفسه، ولأن الإنسان ليس مجرّد الفرد، فإن الحريّة تتعدى قضايا الحريّة الفردية إلى آفاق أكبر وأوسع بكثير من إطار الفرد الضيّق إلى الإنسان من حيث هو ضدّ لهذه الحريّة، أو بمعنى آخر سبب لوجودها، ولأن الشيء لا يُعرف إلا بضدّه، فإن وجود الإنسان مرتبط بوجود الحريّة بالمقابل.

الشيء المقدّس هو الشيء المنزّه عن الخطأ وعن العلّة والاعتلال، سواء بذاته أو بعلّة أخرى، ولذا فإن المُقدّس غامض، ومجهول لأنه غير مطروق وغير متاح، وبالتالي فالمُقدّس غير قابل للنقاش، وغير قابل للنقد، وهو فوق ذلك ليس له ضدّ، أو أنّ ضدّه لا يكون سبباً في وجوده، وهو ما ينفي مبدأ الحريّة وينسفها من الأساس، بل وينسف قانون التضاد الذي تقوم عليه قوانين الكون والطبيعة؛ ومن هنا كانت الفكرة الإلحادية مؤدية إلى الله.

تختلف المذاهب الإلحادية في تعاطيها مع فكرة الإلحاد ومفهومه، وقد شهدنا بعض التيارات الإلحادية التي اتخذت مواقف متطرفة من بعض قضايا الإلحاد حتى أُصيبت بالدوغمائية هي الأخرى، ومن قبل عرفنا أنّ بعض الملحدين وقعوا في شرك الإفراط في الحرية أو التفريط في القداسة حتى أُصيبت بأحدهما، وكانت محسوبة على الفكر الإلحادي بشكله العام.
وسواء نأى الملحدون عن تناول نفي/إثبات وجود الله، فإن القضية الإلحادية الكبرى تظل بعيدة عن هذه النقطة بالكُليّة، فليس واجب المُلحد أن ينفي وجود الله، لأنه إن حدث ذلك فسوف ينتفي مبدأ الحريّة والتي هي اشتراط لوجوده هو نفسه، ولكن نفي الله يحدث بصورة تلقائية عبر سلسلة من المقولات المنطقية والذهنية، المُدعّمة بسلسلة من النظريات والحقائق العلمية التي تقودنا مباشرة إلى سؤالٍ لا مناص منه حول وجود أو لا وجود الله؛ إذن فالملحد لا يبحث –في سعيه- إلى نفي وجود الله، وإنما يقوده إلى ذلك التسلسل المنطقي الذي يتبعه في طريقه لمعرفة نفسه عبر معرفة الحقيقة؛ ولذا فإن المُلحد هو باحث عن الحقيقة في المقام الأول.

إحدى الطرائق المنطقية التي يتبعها بعض المُلحدون في بحثهم عن الحقيقة تبدأ من تساؤلات فلسفية حول الأخلاق (الخير والشر) وتنتهي بهم هذه التساؤلات إلى المواجهة المباشرة أمام "الله" (هل الله خير أم شر؟) ولكن التعاطي مع قضية مثل هذه لا يُمكن قيادتها بسطحية، إلا عبر معرفة كاملة ودقيقة لعلم المنطق، وعبر معرفة –كذلك- لفلسفة الأخلاق؛ فإذا كان الله خيراً، فمن أين جاء الشر؟ من الشيطان؟ ومن الذي خلق الشيطان أليس الله؟ فلماذا يخلق الله الشر؟ هل يخلق الخير شراً؟ إذن فهو قادر على صناعة الشر، فلماذا يدعونا إلى الخير إذا لم يكن هو خيراً مطلقاً؟

مثل هذه التساؤلات –وغيرها- من شأنها أن تضعنا مباشرة أمام إحدى أكثر قضايا الإلحاد تعقيداً وأهمية، ولكنها ليست أهمها على الإطلاق. فالإلحاد لا يتناقش حول الله مباشرة، وإنما قد ينتهي إليه بالطريقة التسلسلية المنطقية. الإلحاد يُناقش الإنسان ووجوده وحريّته، وبالتالي يُناقش المجتمعات والثقافات، وبالتالي يُناقش الظواهر، وبالتالي يُناقش الديانات والأفكار والمعتقدات. وإلى هذا الحد يظهر التمايز بين من ينكرون وجود الله، وبين من لا يؤمنون بوجوده.